نصوص في درس الرغبة

0 التعليقات
نصوص في درس الرغبة

 النص 1:
” - أليس صحيحا أن بعض العطشى لا يرغبون أحيانا في الشرب؟
- أجل كثيرا ما يحدث ذلك.
- فماذا نقول عن هؤلاء سوى أن في أنفسهم مبدأ يأمرهم بالشرب وآخر ينهاهم، وإن الآخر يختلف عن
الأول ويتغلب عليه؟
- هذا ما أعتقده.
- ألا ترى أن المبدأ الذي يقوم بمثل هذه النواهي في النفس، إنما يأتي من العقل، بينما الاندفاع والميل يرجع
إلى الانفعالات أو إلى الأمراض؟
- يبدو ذلك.
- فلنا الحق إذن في أن نؤكد تميز كل من هذين المبدأين عن الآخر، فأما المبدأ الذي تفكر به النفس، فلنسمه
العقل، وأما ذلك الذي تحب به، وتجوع به وتعطش، وتتعرض به لكل الانفعالات، فلنسمه شهوة لاعاقلة،
ترتبط باللذة عند إشباع حاجات معينة…
- أليست مهمة العقل، هي أن يأمر، لأنه حكيم، ولأن مهمته هي أن يسهر على رعاية النفس بأسرها؟ “
أفلاطون، الجمهورية، الكتاب الخامس، ترجمة فؤاد زكريا، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر-القاهرة، بدون تاريخ، ص: 145-151.
عن مقرر في رحاب الفلسفة للسنة الأولى باكلوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2006، ص: 29.
النص 2:
” حيثما توجد الرغبة يوجد اللاشعور. واللاشعور لغة تنفلت من سلطة الذات، لها بنيتها الخاصة والمستقلة وآثارها في الذات. إن اللاشعور لغة توجد وراء الشعور، وهنا بالضبط تتموضع وظيفة الرغبة…
ما الرغبة إذن؟ إنها، بمعنى من المعاني، ترفع إلى أبعد حد درجة اللذة والاستمتاع، خارج منطقة الوعي والإرادة، لكن بطريقتها الخاصة. وهي طريقة استيهامية، يلعب جانب التخييل وسجله دورا أساسيا في عملها… فالرغبة استمتاع الجسد بالتوترات والضغوطات الجنسية الدفينة والمنسية.”
جاك لاكان، التحليل النفسي والطب، مقال صدر في “رسائل المدرسة الفرويدية بباريس”، العدد الأول، مارس 1967، ص: 45-47 .
عن مقرر في رحاب الفلسفة للسنة الأولى باكلوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2006، ص: 33.
النص 3:
“إن ما نسميه الرغبة هو ذلك التوتر الذي يحس به الإنسان في أعماقه حينما يغيب عنه شيء ما كان من الممكن أن يمنحه اللذة. هذه الرغبة تزيد أو تنقص، حسب حدة التوتر. وهنا لن يكون من غير المجدي أن نشير بشكل عابر إلى أن التوتر هو الأساس الذي يثير النشاط الإنساني، كي لا نقول إنه المحرك الوحيد له.
ومهما تكن المنفعة التي نقترحها على الإنسان، وكان غياب تلك المنفعة لا يترتب عنه أي إحساس بالانقباض أو الألم، وأن الذي يمكن أن يحرم منها يمكن أن يكون مسرورا رغم عدم حصوله عليها، فإنه لن يخطر بباله أن يرغب فيها، بل إنه لن يبذل أي جهد قصد الاستمتاع بها. فهو لن يشعر تجاه تلك المنفعة إلا باهتزاز خفيف فحسب، وهو لفظ نوظفه كي نعبر به عن أدنى مراتب الرغبة، وما يقرب كثيرا من تلك الحالة التي توجد عليها النفس بخصوص شيء لا تكترث به ولا ترغب فيه إطلاقا، أي عندما يكون الانقباض الذي يسببه غياب شيء ما غير مهم وضعيف بحيث إنه لا يقود ذاك الذي حرم منه إلا إلى تكوين بعض الأمنيات البسيطة دون أن يجهد نفسه للحصول عليها.
إن الرغبة تخمد أو تتباطأ أيضا، بناء على القول إن المنفعة المأمولة لا يمكن الحصول عليها إلا شريطة أن يتبدد توتر النفس أو يقل”.
جون لوك، مقالات فلسفية في الفهم الإنساني …
عن مقرر منار الفلسفة، للسنة الأولى باكلوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2007، ص: 44 .
 النص 4:
« هناك أنواع من الرغبات بقدر ما هناك من أنواع الحب والكراهية، وان أحقها بالاعتبار وأقواها هي الرغبات التي تولدها البهجة والنفور… فما الرغبة التي تولدها البهجة؟ إن الطبيعة قد أقامت البهجة لتصور التمتع بما هو مبهج وملذ كأعظم خير بين كل الخيرات التي تنتمي إلى الإنسان. وهذا ما يجعلنا نشتهي بحرارة فائقة هذا التمتع. صحيح أن هناك أنواعا مختلفة من البهجات، وأن الرغبات التي تتولد بفضلها ليست كلها بالقوة ذاتها. ومثال ذلك، أن جمال الأزهار يحضنا فقط على النظر إليها، في حين أن جمال الفاكهة يحثنا على أكلها. غير أن الابتهاج الرئيسي هو الذي يأتي من الكمالات التي نظنها في شخص نعتقد أنه يستطيع أن يصبح ذاتنا الأخرى.
إذا لاحظنا لدى شخص شيئا معينا يبهجنا أكثر مما يبهجنا ما نراه في الوقت ذاته لدى الآخرين، فإن ذلك يوجه النفس لأن تشعر نحو هذا الشخص وحده بكل الميل الذي منحته إياه الطبيعة
للبحث عن الخير الذي تصوره له بأن أعظم خير يمكن أن يحوزه. وهذا الميل، أو هذه الرغبة التي تولد هكذا من الإحساس بالبهجة تسمى عادة الحب.»
روني ديكارت، انفعالات النفس، ترجمة جورج زيناتي، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت-لبنان، 1993 ص: 60-62 .
عن مقرر في رحاب الفلسفة للسنة الأولى باكلوريا، مسلك الآداب والعلوم الإنسانية، طبعة 2006، ص: 36.

الحجاج في الدرس الفلسفي

0 التعليقات

من المعروف أن التفكيرالفلسفي هو تفكير حجاجي بامتياز. ولذلك يستخدم الفلاسفة أساليب حجاجية لا حصر لها؛ وهي إما أساليب استدلالية كالاستدلال الاستقرائي أو الاستنباطي أوالاستدلال بالمماثلة أو الاستدلال بالخلف… أو بلاغية كالاستعارة أو التشبيه أو المثال… أو واقعية مثل الحجة بالسلطة أو الاستشهاد بوقائع اجتماعية أو تاريخية…
وعلى العموم فالأساليب الحجاجية في الفلسفة، بما فيها أسلوب المثال، ليست براهينا قطعية كما هو الحال في المنطق أو الرياضيات بل هي حجج نسبية واحتمالية، وتتم داخل اللغة الطبيعية كما تستهدف التأثير في القارئ واستمالته. ولذلك نسجل هنا اختلاف الحجاج عن البرهان؛ ذلك أن الخطاب الفلسفي هو خطاب حجاجي بالدرجة الأولى وليس برهانيا بالمعنى الدقيق.ولذلك يجب التمييز بين الحجاج argumentation والبرهان demonstration وعدم الخلط بينهما.

إن البرهان ذو طبيعة صورية ولاشخصية، كما أنه يستخدم في اللغة الرمزية ويقبل إما الصواب أو الخطأ، في حين نجد أن الحجاج يستخدم من خلال اللغة الطبيعية ويستهدف الإقناع الشخصي مما يمنحه طابعا احتماليا ونسبيا.

والحجاج الفلسفي عموما هو سلسلة من الحجج المرتبة وفق استراتيجية معينة من قبل الفيلسوف، من أجل الإقناع بفكرة ما أو دحضها. والمثال شأنه شأن المقارنة أو الاستعارة أو التشبيه أو التفسير أو الاستنتاج أو الاستقراء أو الحجة بالسلطة… هو نوع من الحجج المستخدمة في الحجاج الفلسفي.

والمثال هو نوع من الحجج التي تستخدم في الحجاج الفلسفي. صحيح أنه ليس من الحجج الاستدلالية ولكنه من نوع الحجج البلاغية؛ وسواء تعلق الأمر بالحجج الاستدلالية أو البلاغية فهي ليست من الحجج العقلية البرهانية القطعية بل هي ذات طابع احتمالي ويمكن دحضها و الكشف عن التناقض الكامن فيها.
باختصار إن الفلسفة تعتمد الحجاج وليس البرهان بمعناه المنطقي والرياضي. وجميع الحجج الموظفة في النصوص الفلسفية هي ذات طابع حجاجي احتمالي وليست برهانية قطعية.
إن البرهان يدل على عملية عقلية تصوغ حقيقة قضية ما بشكل استنباطي(الجبر و الهندسة) يسمح لنا باستخلاص قضية من قضايا أخرى بديهية، أما الحجاج فهو عبارة عن مجموع الإجراءات الخطابة التي توضع من أجل دحض قضية ما أو جعلها مقبولة لدي المخاطب. فالحجاج يسعى إلى كسب تعاطف المخاطبين، في حين أن البرهان يحمل في ذاته البداهة و الضرورة، هو الصواب و الخطأ. إن دراسة الحجاج تهتم أساسا بتحليل التقنيات التي تسمح بخلق موافقة و تنمية قبول أو اعتقاد لدى المخاطب بدعوى ما نعرضه عليه، و هذا ما يجعل الحجاج في العمق و الأساس عن البرهنة. فهذه الأخيرة هي استنباط يتم بموجب استخلاص نتائج انطلاقا من مسلمات معينة بكيفية منطقية و حسابية، بخلاف الحجاج الذي يسعى فقط إلى الإقناع أو الانتصار لقضية ما و جعلها مقبولة و ذلك ضمن سياق سوسيو نفسي معين.
وهناك مجموعة من المستويات التي يختلف فيها الحجاج عن البرهان،نذكر منها ما يلي:
أ- الأوليات في البرهان الرياضي تكون بديهية و غير قابلة للنقاش، في حين أن المقدمات التي ينطلق منها الحجاج لا تكون بالضرورة بديهية بل فقط مقبولة و مشتركة بين أفراد المناقشة.
ب- في البرهان نعتمد على الأدلة العقلية و على العلاقات المنطقية الصارمة التي لا تهتم بالذوات المتلقية، في حين يأخذ الحجاج الذات المتلقية بعين الاعتبار بحيث يسعى لجعلها تتقبل عاطفيا ما نقوله اعتمادا على معطيات بلاغية تروم التأثير في أحاسيس المخاطب و استدراجه للاعتقاد بصواب ما ندعيه من قضايا.
ج- يتأرجح البرهان بين الصواب و الخطأ، فتكون قيمته في ذاته و في تماسك عناصره الداخلية، بينما نجد الحجاج يسعى إلى التأثير الخارجي عبر عمليتي التبرير و الإقناع، لذلك فقيمته لا تكمن بالأساس فيما إذا كان صحيحا أو خاطئا و إنما في قوة أو ضعف فاعليته التأثيرية.


هكذا نخلص إلى أن الحجاج يتحدد، على العكس من البرهان، كمجموعة من الأساليب الخطابية التي تعمل على جعل أطروحة ما مقبولة حيث تهدف إلى إحراز إجماع العقول التي تتوجه إليها. و في الوقت الذي نجد البرهان يحمل في ذاته البداهة و الضرورة، نجد أن الحجاج يتحرك داخل حقل الاحتمال و يكون دوما موجها إلى جمهور. فمن الواضح أن هناك اختلافا بين الحجاج و البرهان سواء في مستوى المنطلقات أو التقنيات المعتمدة، أو في مستوى الأهداف المتوخاة. و بناءا على هذا التمييز يمكن التأكيد على أن خطاب الفلسفة حجاجي و ليس برهانيا – رغم ذهاب الكثير من الفلاسفة القدماء إلى اعتبار القول الفلسفي قولا برهانيا - ذلك أن الفلسفة لا تقوم على قضايا صورية كما هو الشأن بالنسبة للمنطق و الرياضيات.

بأي معنى يمكن الحديث عن ضرورة الحجاج في تدريس الفلسفة ؟

إن إجابتنا عن هذا التساؤل تنطلق من نقطة جوهرية بالنسبة إلينا،وهي أن الحجاج خاصية أساسية من خصائص التفكير الفلسفي، وأسلوب رئيسي في تبليغ القول الفلسفي.
ومادام طموحنا هو جعل الدرس الفلسفي مطابقا في روحه للخطاب الفلسفي نفسه، فإن الأمر يقتضي منا استحضارا قويا للحجاج كأسلوب في التدريس الفلسفي، وبحثا جادا عن الأشكال والإجراءات العملية التي من شأنها تدعيم هذا الحضور وترسيخه في العملية التعليمية التعلمية الخاصة بدرس الفلسفة في الثانوي التأهيلي.
هكذا فضرورة الحجاج في تدريس الفلسفة هي ضرورة “أنطلوجية” و “ماهوية”؛ إذا فهمنا من ذلك أن درس الفلسفة يكتسب وجوده الحقيقي، ويستمد ماهيته وطريقة اشتغاله، من الأساليب المميزة لإنتاجات الفلاسفة أنفسهم، وفي مقدمتها طبعا الأسلوب البرهاني الحجاجي، هذا الأسلوب الذي يجسد – بجانب الأساليب الأخرى – فعل التفكير الفلسفي الذي نتوخى إكسابه للمتعلم بأن نعمل على تنمية القدرات العقلية لديه وتدريبه على مختلف المهارات التي يستوجبها التعلم الفلسفي.
إن ضرورة الحجاج في الدرس الفلسفي نابعة أيضا من القناعة التي أصبحت راسخة لدى مختلف المهتمين بمجال تدريس الفلسفة، وهي ضرورة نقل تعليم الفلسفة من التعليم الإخباري إلى التعليم البرهاني الحجاجي الذي يسمح وحده بتعليم الفلسفة وفقا لروح التفكير الفلسفي نفسها. فليس الهدف في الدرس الفلسفي، كدرس حجاجي، تعليم الأفكار بل تعليم التفكير؛ فليس المهم هو إخبار المتعلم بأن هذا الفيلسوف يقول بهذه الفكرة أو تلك، بل الأهم هو جعل المتعلم يدرك الكيفية أو الطريقة التي نهجها الفيلسوف للتوصل إلى تلك الفكرة، وهو الأمر الذي يستدعي بالضرورة توضيح أسلوب التفكير لدى الفيلسوف والعمل على ترسيخه لدى المتعلم لكي يتعلم بدوره كيف ينتج أفكارا ويستخدمها لصالحه الخاص بدلا من استهلاك أفكار الآخرين فحسب.
وإذا كانت السلطة الوحيدة في الفكر الفلسفي هي سلطة العقل و “الحجة العقلية”، فإن الحجاج كأسلوب عقلي يفرض ضرورته في أي تعليم فلسفي جدير بهذا الاسم.
إن استحضار الحجاج في تدريس الفلسفة يشكل مناسبة لتشغيل ذهن المتعلم، ودخوله في علاقة مباشرة مع الآليات والتقنيات التي يشتغل وفقها العقل الفلسفي ويحلل بمقتضاها مختلف القضايا الإنسانية المطروحة أمامه. والهدف من ذلك هو جعل المتعلم يكتسب تلك الآليات التفكيرية وممارستها لصالحه الخاص، أي بالتعامل معها كأدوات عقلية من شأنها إنتاج أفكار متنوعة وفي مقامات متعددة.
وينبغي أن نشير في الأخير، إلى أن النقل الديداكتيكي لآليات التفكير الحجاجي من مستوى الخطاب الفلسفي إلى مستوى ممارسة المدرس في أفق ترسيخها لدى المتعلم، هو أمر يقتضي الاعتماد على إجراءات عملية وانتهاج طرق ووسائل في التدريس، ومن أهمها النصوص والتمارين الفلسفية. 

الوعي و اللاوعي

0 التعليقات
 الوعي و اللاوعي

يعتبر الوعي خاصية جوهرية تميز الإنسان عن باقي الأشياء والكائنات الأخرى. فالوعي يصاحب كل أفعال الإنسان وأفكاره، وهذا ما يسمى بالوعي التلقائي. كما يرتبط الوعي بالشعور وبمجموع الأحاسيس التي تجري داخل الذات، وهذا ما يسمى بالوعي السيكولوجي. كما أن الوعي يتمظهر على مستوى الحياة العملية، فنتحدث عن وعي أخلاقي أو وعي سياسي مثلا. فللوعي عدة أشكال ومظاهر، غير أن الدراسات الفلسفية والنفسية وضعت الوعي موضع استشكال ونقد، واعتبرته غطاءا خارجيا لا يمثل سوى سطح الذات أو الجهاز النفسي، بينما يمثل اللاوعي الجزء العميق من الذات.
فما هو الوعي؟ وما دور الحواس في تشكله ؟ وما علاقته باللاوعي؟ ومن منهما يتحكم أكثر في أفعال الإنسان وأفكاره؟ وهل يقدم لنا الوعي صورة حقيقية عن أنفسنا وعن الواقع؟

1- الوعي والإدراك الحسي:

يمكن أن نعرض هنا لموقف أب الفلسفة الحديثة

روني ديكارت 

الذي ذهب إلى أن الوعي حقيقة بديهية تدرك عن طريق الحدس العقلي، بحيث لا يرقى إليه الشك أبدا. كما اعتبره خاصية أساسية وثابتة تميز الأنا كجوهر مفكر. فأنا أشك – يقول ديكارت- ، وما دام الشك نوع من التفكير، فأنا أفكر. وإذا كنت أفكر، فأنا موجود. هكذا صاغ ديكارت ما أصبح يعرف بالكوجيطو الديكارتي: أنا أفكر، فأنا موجود.
وقد تساءل ديكارت: ” أي شيء أنا…؟” وأجاب: أنا شيء مفكر. ثم أعقب ذلك بالتساؤل:”ما الشيء المفكر؟”، وأجاب: إنه شيء يشك ويفهم ويتصور ويثبت وينفي … فللأنا المفكر خصائص مثل الشك والتصور والتخيل والإحساس، وهذه الخصائص لا تنفصل عنه. كما يتميز الأنا المفكر بالوحدة والثبات؛ فبالرغم من أنه تصدر عنه عدة أفعال، فإنه يظل هو هو وفي تطابق مع نفسه.
وإذا كان الأنا يفكر فهو موجود. وهذا الوجود هو وجود يقيني لا يرقى إليه الشك. فأنا موجود حتى في حالة النوم، وحتى في افتراض أن هناك قوة عليا تحاول أن تخدعني أو تضللني.
وبخلاف ذلك، أكد الفيلسوف التجريبي

دفيد هيوم  

أنه لا يمكن للأنا أن يعي ذاته ويشعر بها من دون عملية إدراكية حسية. وبزوال الإدراك الحسي يزول الوعي بالذات، ولا يعود الأنا موجودا. فلا يمكن أن يحصل الوعي بالذات إلا من خلال الإدراك الحسي. بحيث يعتبر هدا الأخير شرطا أساسيا لوعي الأنا بذاته، وحيث أن الإدراك الحسي يزول بزوال الموت، فإنه يزول معه الوعي، فلا يعود الأنا موجودا، أي يغدو عدما خالصا.
أما الفيلسوف الألماني

إيمانويل كانط 

فقد رأى أن الإنسان يتميز عن الحيوانات والأشياء بقدرته على تصور ذاته ووعيه بها، وهو ما يجعله كائنا حرا، مسؤولا وذا كرامة لا تقدر بثمن. ويرتبط الوعي بالذات لدى الإنسان بالنطق بلفظ أنا، أو على الأقل امتلاك تصور عنها.
فلا يمكن الوعي بالذات إلا من خلال النطق بلفظ أنا، أو على الأقل امتلاك مدلول عنها؛ فحينما يبدأ الطفل بالنطق بلفظ أنا، فإنه ينتقل من الإحساس الحسي المباشر بذاته ليرتقي إلى مستوى التفكير فيها والوعي بها.
والوعي بالذات هو الذي يمنحها هويتها، أي يكسبها وحدتها وتميزها عن باقي الأشياء والكائنات. كما يمنح الوعي للإنسان قيمة وكرامة لا تقدر بثمن.
وقد قارن كانط بين الإنسان من جهة، والحيوانات والأشياء من جهة أخرى. وذلك من أجل إثبات أن الإنسان يتميز عنها بالخصائص الرئيسية التالية: العقل، الوعي، الحرية، المسؤولية والكرامة.
كما قدم لنا ثلاثة أمثلة؛ يتعلق أولهما بذلك الإنسان غير القادر على النطق بالأنا، مثل الأبكم مثلا، نظرا لوجود مشكل في أعضاء النطق. وقد أراد أن يبين أنه بالرغم من ذلك، فإنه تظل لهدا الإنسان القدرة على امتلاك تصور لأناه، مما يؤهله لكي يكون كائنا واعيا. ويتعلق ثانيهما بمثال اللغات التي قد لا تتوفر على صيغة تعبيرية عن ضمير المتكلم أنا، لكنها مع ذلك تكون مضطرة إلى أن تتوفر على مدلول أو تصور أو فكرة عنه. أما المثال الثالث، فيتمثل في ذلك الطفل الذي لا يكون في بداية تعلمه للغة قادرا على الإشارة إلى نفسه بلفظ أنا، وحينما يبدأ بالنطق به فإنه ينتقل من مستوى الإحساس الحسي الغريزي إلى مستوى التفكير والوعي بالذات.
وقد رفض العالم البيولوجي المعاصر شونجو أن يكون الوعي موضوعا للدراسات اللاهوتية و الأدبية، بل يجب تفسيره وإخضاعه للتجارب العلمية الدقيقة. و يري أن كل نشاط عقلي هوعبارة عن نشاط عصبي؛ فالحواس تتعرض إلي منبهات خارجية و تقوم بإرسالها إلى الجهاز العصبي الذي تقوم خلاياه، وبكيفية معقدة، بإحداث نشاط عقلي هو الذي يعبر عنه بما يسمى بالوعي .
هكذا قدم لنا شونجو تفسيرا ماديا فزيولوجيا لمسألة الوعي، والذي يلعب الإدراك الحسي دورا كبيرا في إنتاجه. فالوعي هو نشاط عقلي مرتبط بخلايا الجهاز العصبي للدماغ ولا يمكن تصوره بدونه.
كما أن النشاط العقلي هو نشاط عصبي مشروط فيزيولوجيا؛ أي أنه مرتبط بوظائف خلايا الجهاز العصبي .

2-الوعي و اللاوعي:

وإدا كانت الفلسفة الكلاسيكية قد اعتبرت الإنسان وعيا بالدرجة الأولى، فإنها قد أغفلت الجوانب اللاواعية في الإنسان، وهو ما سيتم الانتباه إليه في الفلسفة والعلوم الإنسانية المعاصرة. وفي هدا السياق، عمل المحلل النفسي والفيلسوف

سيغموند فرويد

على الدفاع عن فرضية اللاشعور كفرضية ضرورية ومشروعة. هكذا اعتبر فرويد أن هناك الكثير من أفعال الإنسان وأفكاره لا يمكن تفسيرها انطلاقا من الوعي، بل هي صادرة عن دوافع لاواعية. وهذا ما يجعل فرضية اللاوعي ضرورية ومشروعة، خصوصا وأن الممارسة الطبية النفسية أثبتت نجاحها ومشروعيتها. ويدل اللاوعي على ذلك الجانب العميق والخفي في الجهاز النفسي، والذي يحتوي على دوافع ورغبات غريزية ومكبوتة. وتجد تلك الدوافع اللاواعية تجليات لها في عدة مظاهر، من بينها فلتات اللسان وزلات القلم والهفوات والأحلام والإبداعات الأدبية والفنية … كأشكال تعبيرية تتيح لتلك الدوافع والرغبات العميقة أن تطفو إلى السطح وتعبر عن نفسها بكل حرية.
وقد قدم فرويد مجموعة من الحجج لإثبات مشروعية فرضية اللاوعي؛ منها أن معطيات الوعي ناقصة ولا يمكنها تفسير وفهم الكثير من الأفعال النفسية كالهفوات والأحلام مثلا. كما تثبت التجربة اليومية أن هناك أفكار تخطر على الإنسان دون أن يكون مصدرها هو الوعي، فإذن لا يمكن أن تكون صادرة إلا عن دوافع لاواعية. فضلا عن ذلك فإن فرضية اللاوعي هي فرضية مشروعة لأن التجربة العلمية أكدت نجاحها على مستوى علاج
الكثير من الأمراض النفسية.
إن فرويد يمنح الأسبقية للاشعور أو اللاوعي في تفسير الأنشطة الصادرة عن الجهاز النفسي .فالجزء الأكبر في هذا الجهاز تحتله الدوافع اللاشعورية التي تقف وراء معظم أفعال الإنسان و إبداعاته الفكرية و الفنية .
ويتكون الجهاز النفسي حسب فرويد من الهو والأنا والأنا الأعلى. فالهوهو أصل الجهاز النفسي، ويمثل الرغبات الغريزية التي تهدف إلى تحقيق اللّذة الحسية. كما أنه لاعقلي، لاشعوري، لا منطقي ،لا زماني و لا مكاني، أي لا يقيم اعتبارا لا لمبادئ العقل والمنطق والأخلاق، ولا لمقتضيات الزمان والمكان والواقع، أثناء تحقيقه لرغباته الغريزية. أما الأنا فينشأ عن اصطدام رغبات الهو بالواقع، و يمثل منطقة الصراع في الجهاز النفسي حيث يقوم بوظيفة أساسية، هي التوفيق بين الرغبات اللامعقولة للهو و الأوامر المثالية للأنا الأعلى. وإذا كان الأنا يتحكم فيه مبدأ الواقع، فإن الأنا الأعلى يمثل مبدأ المثال؛ إذ تتحكم فيه مجموعة من القيم الأخلاقية العليا (الضمير الأخلاقي )، وهو ينشأ عن تقمص الطفل للأوامر العليا لوالديه أو لمن يعتبرهم قدوة بالنسبة إليه .
وإذا كان الوعي هو معرفة مباشرة بالحالات النفسية، و مجاله هو مجموع العواطف و الأفكار والصور التي تؤسس الحياة العقلية لكل فرد، فإن اللاوعي هو جانب عميق في الحياة النفسية يتكون من الميولات والرغبات المكبوتة، و التي تعبر عن نفسها في النكت وزلات القلم وفلتات اللسان والأحلام … ذلك أن الحلم هو تعبير رمزي عن رغبات لاشعورية يصعب تحقيقها في الواقع نظرا لرقابة الأنا والأنا الأعلى، فيحتال عليهما الهو ليلا أو نهارا لكي يحقق رغباته في غفلة منهما !! وتفصح الرغبات اللاشعورية عن نفسها أثناء الحلم بكيفية مقنعة و مرموزة . ولدلك اعتبر فرويد بأن “الأحلام هي الطريق الملكي إلى اللاشعور”!! كما دهب إلى“أن الفوضى الظاهرة في الحلم ليست إلا شيئا ظاهريا لا يلبث أن يختفي حينما نمعن النظر في الحلم”.
وإذا كان فرويد قد أكد على دور اللاوعي في توجيه سلوكات الإنسان، فإننا نجد بعض الفلاسفة ينتقدون فكرة اللاوعي هذه ويحاولون من جديد إعادة الاعتبار لدور الوعي في صدور مختلف الأفعال والمواقف عن الإنسان ككائن مفكر وعاقل وواع. وفي هدا السياق، يمكن أن نشير إلى الفيلسوف الفرنسي المعاصر ألان (إميل شارتيي) الذي يرفض فكرة فرويد القائلة بأن اللاشعور هو الذي يتحكم في الذات، و يقول على العكس من ذلك أن أفكارنا و سلوكاتنا هي نتائج للوعي؛ أي لذات فاعلة و متكلمة .
هكدا نجد ألان يعتمد في كتاباته على أسلوب سجالي، يحاول من خلاله أن ينتقد مفهوم اللاشعور كما قدمه علم النفس الفرويدي. فلفظ اللاشعور في نظره هو من نسج خيال فرويد، إنه شخصية أسطورية، كما أنه من الصعب تحديده وفهمه. كما أنه لا يمكن القول بأن الغريزة لاشعورية، والسبب هو أنه لا يوجد أمامها شعور حيواني تتمظهر من خلاله. و هذا يعني أن كل وعي أو شعور هو عقلي و مفكر فيه من قبل العقل الواعي.
وقد اعتبر ألان أن علامات الأحلام عادية و يمكن تفسيرها انطلاقا من نظام رمزي وسهل، و هذا بخلاف فرويد الذي يذهب إلى أن الأحلام ذات رمزية ملتوية و معقدة . ويرفض ألان أن يكون اللاشعور أنا آخر، بل إن كل أفكارنا و سلوكاتنا هي نتاج لإرادة صادرة عن الذات الواعية الفاعلة و المتحكمة.
لقد تم اعتبار الإنسان في الفلسفة حيوانا ناطقا، و تم اعتبار أن الوعي هو السمة الأساسية المميزة له عن باقي الكائنات.هكذا  فالوعي عند الفلاسفة

سارتر و ألان

هو المصدر أو الأساس الذي تنبني عليه كل الحقائق، فسلوكات الإنسان و أفكاره صادرة عن الوعي . غير أن أبحاث فرويد في مجال علم النفس أدت إلى اكتشاف اللاوعي أو اللاشعور، بحيث ثم اعتباره أساس الحياة النفسية و أنه يحتل الحيز الأكبر في الجهاز النفسي، و ما الوعي سوى الجزء الضئيل الذي يتواجد على سطح هذا الجهاز. واعتبر فرويد أن معظم سلوكات الإنسان، و أشكال وعيه بذاته و بالعالم، صادرة عن دوافع لاشعورية تجد تجلياتها في الأحلام و النكت و فلتات اللسان، وفي الإبداعات الفنية و الأمراض النفسية .
وإذا كان فرويد قد ركز كثيرا على الوعي في جانبه الفردي، فإننا نجد

غوستاف لوبون

 يحدثنا عن لاوعي جماعي يهيمن على الحياة النفسية أكثر من الوعي. ويتخذ هذا اللاوعي أو اللاشعور طابعا جماعيا من خلال ارتباطه بروح العرق؛ أي بماضي الجماعة الثقافي والفكري الذي يتوارث جيل عن جيل ويتحكم في الأفراد بشكل لاواعي، ويتمظهر في سلوكاتهم وطقوسهم الإجتماعية.
وروح العرق هو مجموعة من العناصر الثقافية والسيكولوجية التي تميز سلاسة أو عرق معين، وتتوارث جيل عن جيل، وهو يرتبط ارتباطا وثيقا باللاشعور مادام أن هدا الأخير يتكون من عناصر وراثية تشكل روح العرق التي تتميز بها جماعة ما.
إن أفعال الإنسان حسب غوستاف لوبون صادرة عن دوافع لاشعورية تتكون من عناصر وراثية تعود إلى ماضي السلاسة والعرق، وهي عناصر وراثية ثقافية تترسخ لدى الأفراد مع مرور الزمن من خلال التربية والتنشئة الاجتماعية. هكذا فالعناصر اللاشعورية تتشابه بين كل أفراد العرق الواحد، كالغرائز والانفعالات والمعتقدات المستبطنة … إذ بالرغم من وجود تفاوت في المستوى الفكري والثقافي بين عالم مشهور وصانع أحذية مثلا، فإنهما يتشابهان في الصفات العامة التي يشترك فيها أفراد العرق الواحد كالمزاج والأحاسيس والاعتقادات.

3- الإيديولوجيا و الوهم:

وإذا كان الإنسان يعبر من خلال الوعي عن ذاته وعن العالم المحيط به، فهل بإمكان الوعي أن يمنحنا صورة حقيقية عن ذواتنا وواقعنا؟ ألا تتدخل الإيديولوجيا والوهم في تزييف الوعي وقلب صورة الواقع؟ وهل كل ما يقدمه لنا العقل حقيقي؟ ألا يمكن أن تحيط به مجموعة من الأوهام؟ وما هي أهمها؟
يمكن في هذا الإطار أن نقدم موقف

فرنسيس بيكون

 الذي يرى أن العقل لا يقدم لنا دائما صورة حقيقية عن الواقع وعن أنفسنا، فهو غالبا ما يكون محاطا بكثير من الأوهام، اختصرها بيكون في أربعة أنواع يمكن تحديد خصائصها كما يلي:
* أوهام القبيلة:
- عامة ومشتركة بين كل الناس.
- ملازمة ومتأصلة في الطبيعة البشرية.
- مرتبطة بالعقل البشري الذي يشوه خصائص الأشياء و يغير من شكلها.

* أوهام الكهف:

- ذاتية وخاصة بكل فرد.
- ناتجة عن تجارب الفرد، وقراءاته، وارتباطه بشخصيات نموذجية.

* أوهام السوق:

- خاصة بجماعة بشرية ما.
- تنشأ عن العلاقات التجارية بين الناس.
- ناتجة عن تجمع الناس وتواصلهم بواسطة اللغة كمنشإ للأوهام.

* أوهام المسرح:

- ترتبط بالمعتقدات والمذاهب الفلسفية.
- ناتجة عن قواعد الاستدلال التي يساء استعمالها.
وقد شبه فرنسيس بيكون الأوهام العامة بأوهام القبيلة لأنها تتعلق بالجنس البشري ككل، وشبه الأوهام الذاتية بأوهام الكهف لأن داخل ذات كل فرد يوجد عالم غامض وعميق (اللاوعي) شبيه بظلام الكهف. كما شبه أوهام الجماعة بالسوق لأنها تتعلق بالتجارة وبتواصل الناس بواسطة اللغة، وشبه الأوهام المذهبية بالمسرح نظرا لأن كل مذهب له طقوسه ومشاهده، وأدوار موزعة داخله شبيهة بما يحدث على خشبة المسرح.
وقد شبه بيكون العقل البشري بالمرايا المتراتبة، لأن كلا منهما يقدم صورة مشوهة عن الواقع ويغير من شكل الأشياء. كما شبه المذاهب الفلسفية بالمسرحيات، لأن كلا منهما تخلق في الذهن عوالم وهمية.
كما يعبر العقل أيضا عن أوهامه من خلال الإيديولوجيا، التي تمارس وظائفها حسب بول ريكور من خلال ثلاث آليات :

أ- تشويه الواقع:

حيث تعمل الإيديولوجيا على إنتاج صورة معكوسة عن الواقع.

ب- تبرير الأوضاع القائمة:

حيث تعمل الطبقة المسيطرة على إعطاء مبررات لأفكارها، و إضفاء المشروعية على مخططاتها و مشاريعها.

ج- إدماج الأفراد في هوية الجماعة:

حيث يتم الإحتفال بالأحداث المؤسسة لهذه الهوية و محاولة ترسيخها لدى الأفراد، و تكوين بنية رمزية للذاكرة الجماعية .
وقد اعتبر بول ريكور أن وظيفة الإدماج هي آلية أعمق و أشمل من الوظائف الأخرى؛ لأن و ظيفة الإدماج تتضمن في طيّاتها وظيفة التبرير؛ ذلك أنه لكي تدمج الأفراد في إيديولوجيا معينة يجب بالضرورة أن تقدم لهم تبريرات تسهل عملية إدماجهم، أما إنتاج الوهم فهو ناتج عن فساد يصيب عملية التبرير، أي أن التبرير حينما لا يكون معقولا يلتجأ إلى الأوهام و الأساطير التي تقدم لنا صورة معكوسة عن الواقع الحقيقي .
هكذا فالإيديولوجيا هي نسق من الأفكار و التمثلات التي تحملها جماعة ما حول العالم، و التي لا تعكس موضوعيا الشروط الواقعية لحياة الناس . كما تقوم الإيديولوجيا بوظيفة تبرير ما يجري على أرض الواقع من سياسة متبعة، وهي بذلك تعمل على فرض نظام سياسي شمولي يعبر عن سلطة كليانية للدولة، تفرض مشاريعها بالقوة وعن طريق زرع الرعب في أفراد الجماعة .
و حينما تقوم الإيديولوجيا بوظيفة الإدماج، فإن الهدف الأساسي من ذلك هو تشكيل هوية خاصة بالجماعة، و جعل الأفراد ينخرطون داخلها و يستبطنون مقوماتها الأساسية، ويتم ذلك من خلال إشراكهم في إحياء الأحداث المؤسسة للهوية الجماعية و تخليد ذاكرتها .
وقد استشهد بول ريكور بالفيلسوف الألماني ” كارل ماركس ” الذي استخدم الإيديولوجيا بمعنى إنتاج صورة معكوسة عن الواقع .كما اعتبر الإيديولوجيا بمثابةالعلبة السوداء، ذلك بأن الإيديولوجيا تقوم بقلب الواقع مثلما تقوم العلبة السوداء بقلب أشياء الواقع في عملية التصوير الفوتوغرافي .
وهو ما جعله يخرج باستنتاج، مفاده أن الإيديولوجيا هي تصورات عقلية و فكرية لا تعكس حقيقة الناس الواقعية.
ولتوضيح الوظائف الثلاث للإيديووجيا، قدم لنا ريكور أمثلة من الواقع الاجتماعي والتاريخي. هكدا فقد لنا مثالا من التجربة و الواقع هو مثال ” السلطة الكليانية ” كنظام سياسي تتجلى فيه الوظيفة التبريرية للإيديولوجيا. كما قدم لنا مثال ” الإحتفال بإحياء الأحداث التاريخية و السياسية لجماعة ما “، وذلك من أجل توضيح االوظيفة الإدماجية للإيديولوجيا.
وقد اعتبر بول ريكور بأن و ظيفة الإدماج هي أهم وظيفة تقوم بها الإيديولوجيا، لأنها تتضمن في طياتها الوظيفتين السابقتين.
وقد فند

كارل ماركس

الأطروحة المثالية التي يعتبر الفيلسوف الألماني هيجل من أبرز ممثليها، والتي تقول بأن الفكر هو الذي يحدد الواقع، وبأن الحياة الاجتماعية نتاج للوعي. وخلافا لهذا يرى ماركس بأن مختلف أشكال الوعي هي انعكاس لما يجري على مستوى الواقع من علاقات اجتماعية ومادية.
وقد اعتبر كارل ماركس أن هناك علاقة وطيدة بين الوعي كأفكار وتمثلات وإيديولوجية من جهة، والحياة المادية الاجتماعية من جهة أخرى. ويذهب إلى أن الحياة المادية هي التي تحدد الوعي وليس العكس. غير أن الإيديولوجية في نظره تقلب الواقع ولا تقدم صورة حقيقية عنه.
من هنا رأى ماركس أن الوعي ليس هو الذي يحدد الوجود الاجتماعي بل إن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي. وهذا ما يجعل أن كل أشكال الوعي من أفكار و تمثلاث دينية وأخلاقية و ميتافيزيقا…هي تجلي وانعكاس للحياة المادية.
و يبرز ماركس أن العلاقة بين الوعي والسلوك المادي تشبه العلاقة بين الإنتاجات الفكرية، سواء كانت قانونية أو أخلاقية أو دينية أو غيرها، والسلوك المادي للبشر؛ إذ يعتبر هذا الأخير هو المحدد سواء لأشكال الوعي المختلفة أو للإنتاجات الفكرية في مجالات الدين والأخلاق والقانون…
وقدم لنا ماركس مثال الغرفة السوداء لآلة التصوير، لكي يوضح لنا أن الناس يبدون مقلوبين في الإيديولوجيا مثلما أن الأشياء تبدو مقلوبة في الغرفة السوداء لآلة التصوير.
كما قدم لنا مثال شبكية العين لكي يبين لنا أن الواقع الإجتماعي المادي ينعكس على مستوى الأفكار الإيدلولوجية مثلما تنعكس الأشياء على شبكية العين، فالظاهرة الأولى تاريخية وثقافية في حين أن الظاهرة الثانية بيولوجية وطبيعية.
وقد أكد ماركس على أن الثقافة الشعبية بما تخلقه من حكايات و أساطير وأفكار وهمية هي أيضا ناتجة عن الحياة المادية للناس، مثلها في ذلك مثل الأفكار و التمثلات الواعية.

مجزوءة الإنسان

0 التعليقات
مجزوءة الإنسان

إن الإنسان كائن متعدد الأبعاد، ويمكن الحديث لديه عن بعدين رئيسيين : بعد طبيعي وبعد ثقافي، و ما سنتطرق إليه في هذه المجزوءة له علاقة بهذين البعدين و بأوجه التداخل بينهما.
إن الفلسفة منذ بداياتها الأولى اهتمت بموضوع الإنسان بل يمكن اعتبار السؤال : ما الإنسان؟ سؤالا مركزيا في مجال التفكير الفلسفي بحيث تتفرع عنه كل الأسئلة و الإشكالات الأخرى. هكذا فمنذ العصر اليوناني القديم قال سقراط : ” يا أيها الإنسان اعرف نفسك بنفسك ” وقد قدمت عدة تعريفات للإنسان، فقال أرسطو ” إن الإنسان حيوان ناطق أو أنه حيوان سياسي “ وقال شوبنهاور ” إن الإنسان حيوان ميتافيزيقي، ” كما قال إرنست كاسيرر Ernest Kassirer ” إن الإنسان حيوان رامز” ، كما نجد تعريفات أخرى للإنسان دون أن نعثر على تعريف جامع مانع لمفهوم الإنسان.
سنتناول في مجزوءة الإنسان بعض الخصائص الأساسية التي تميز الإنسان عن باقي الكائنات الأخرى، و أهم سمة تميزه هي سمة الوعي، فهل يمكن تحديد الوعي بدقة؟ وهل يمكن اعتبار الإنسان وعي فقط أم أن هناك دوافع لا واعية تحدده أيضا ؟ فما علاقة الوعي باللاوعي إذن ؟ و ما هي مختلف أشكال و مظاهر اللاوعي ؟ كما يعتبر الإنسان أيضا حيوانا راغبا، ففضلا عن أن له حاجات بيولوجية يشترك فيها مع الحيوانات فإنه يتفوق عنها إذ أن له رغبات أيضا، فما الرغبة؟ وكيف تتحدد علاقتها الحاجة؟ وهل يمكن للإنسان أن يعرف رغباته جيدا ويتحكم فيها؟ و ما هي الرغبات التي من شأنها أن تحقق للإنسان السعادة؟.
كما يعتبر الإنسان كائنا لغويا، فما الذي يجعل اللغة خاصية إنسانية؟ و إذا كان الإنسان يستخدم اللغة فمن أجل التعبير عن الفكر، فكيف تتحدد علاقة اللغة بالفكر، هل هي علاقة انفصال أم اتصال؟ و هل يمكن الحديث عن أحدهما في غياب الآخر ؟ ثم إن الإنسان لا يستخدم اللغة من أجل التعبير عن الفكر فقط بل أيضا من أجل تحقيق التواصل داخل المجتمع. و أثناء عملية التواصل تقوم اللغة بعدة وظائف من أهمها وظيفة السلطة، فكيف تمارس اللغة هذه الوظيفة ؟


إن الإنسان أيضا كائن اجتماعي بطبعه، فهو يميل إلى العيش مع الآخرين وفقا لمبادئ و قوانين و تشريعات، فما هو أساس الاجتماع البشري؟ و كيف تتحدد علاقة الفرد بالمجتمع؟ و كيف ينبغي أن تمارس السلطة داخل المجتمع؟
سفيان ايشو
تابع القراءة

كافة الحقوق محفوظة 2012 © www.th3philo.comمدونة عالم الفلسفة

سياسة الخصوصية - Privacy Policy